هل كانت جدّتي تعرف مقولة:"الوقت من ذهب لا يعود منه ما ذهب". ؟..لا اظن ذلك...غير أنّها تستغلّ وقتها كاملا...
في ليالي السّمر متى تتحلّق العائلة والأصهار حول إبريق الشّاي قلّما أراها تكتفي بمجرّد الحديث بل كانت ومغزلها
لا يفترقان...تضعه في حلّاب فخّاري حتّى يتسارع دورانه وتلّف عليه خيوط الصّوف الرّفيعة وهي تمطّطها بين أصابعها في حذق بين بين الحين والحين وهي ترفع سبّابتها إلى الأعلى وتمسك الخيط بكفّها... وذراعها بين خفض ورفع...ثمّ تعمد إلى مغزلها فتبرمه...فيلفّ في براعة ورشاقة كأنه راقص صوفيّ وهو يصدر خشخشة رقيقة مطربة..
أراها تنفش الصّوف تختار منه الأنقى والأنصع بياضا..أمّا ما اصفرّ وخشُن فهي تتركه جانبا...ثمّ تعمد إلى تنعيمه بالمشط الحديديّ حتى يصبح ألين وأطوع عند الغزل...وبعد المشط الحديديّ تناله فكّا القرداش ....لكنّ أسنان القرداش أدقّ وأصغر لذا تضع بين فردتيه كميّة أصغر فيكون الصّوف أنعم...كثيرا ما كانت تكلّفني بمساعدتها في هذه المهمّة...وكم رجوتها أن تتركني أشاركها الغزل ،فكانت تمتنع متعلّلة بضياع الوقت أو بأني صغيرة لا يمكنني أن أتقن فنونه...خشخشة المغزل في رقصته الصّوفية الثملة...وأنغام القرداش و رنين الرطّاب يعزف على أوتار المنسج أصداء ما زالت تتردّد في مسمعي رغم تباعد الزّمن مضمّخة بلذيذ الأنس في تلك الأماسي العذاب ...
و كانت تضع بين المنسج والمنسج منسجا...لا تكلّ ولا تملّ...تدير لفافة "الجدّاد"البيضاء على ركبتيها وتدعوني إلى أن أكوّرها في شكل كبّة...لأنّها لو بقيت على شكل لفافة لتداخلت خيوطها وتشابكت في انخرام...آخذ قطعة من ورق أجعلها نواة الكبة وأشرع في ليّ الخيوط عليها... أمّا هي فقد كانت متربّعة تشدّ اللّفافة بركبتيها... وكانت تتابعني في حركة متناغمة، فكلّما لاحظت قصر الخيط رفعت إحدى ركبتيها ثمّ الاخرى حتّى تسهّل جريان الخيط...إلى أن تنهيَ اللّفافة كلّها...
ومن الغد تختار ظلّ سنديانة ...فتدقّ الأوتاد في الأرض وتراها بينها رائحة آيبة تعدّ الخيوط الرّفيعة للمنسج..فاذا ما فرغت شدّتها بإحكام إلى فردتي "السداية"،ثمّ استعانت بإحدى جارتيها لتضعها عموديّا وقد شدتها بوثاق ذي حلقتين إلى الحائط وبحبال تمتدّ أفقيّا لتزداد توازنا...
و لربّما أعجبت برقمة فتنقلها على الورق وهي تحصي عدد المربّعات ،رغم أنّها كانت أميّة لا تعرف القراءة أوالكتابة...
تضع وراء السّدّاية بساطا ..فإذا ما تعبت من دقّ الخلالة واستبدّ بها النّوم ذات قيلولة قائظة...اتّخذت من مكانها ذلك مخدعا لتصيب بعض الراحة...ثمّ تستأنف عملها...ولربّما أرقت فأمضت اللّيل إلّا أقلّه خلف سدّايتها...فتنهي منسجها في وقت قياسيّ...
حينها تحضر الجارات عند قصّ المنسج يثنين على براعتها في الرّقم واختيار الألوان الزّاهية...فتزداد حماسا لمنسج آخر...
![بنترست](http://pinterest.com/pin/create/button/?url=https://www.boyeb.com/2019/02/blog-post_66.html?m=1&media=https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEj070eYrOUUVGPcYSLcYxqcMI341yeezVPAYRFp51R31o_nNVbL9SblG-4CSUZ7jnVoWUiMT-0-3hIds6esNlqZLclO2on0VuBTII_p8RPPAJOutqDpGGPWkxBwCd-UMd7TtvrdE3ZY8cEq/w1600/52176120_2077772545609255_3007706541588480000_n.jpg&description=هل كانت جدّتي تعرف مقولة:"الوقت من ذهب لا يعود منه ما ذهب". ؟..لا اظن ذلك...غير أنّها تستغلّ وقتها كاملا... في ليالي السّمر م…){kind=link}
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع